فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

قال ابن عطية كل من قدَّر الناسَ في الآية كانوا مؤمنين قدَّر في الكلام فاختلفوا وكل من قدرهم كفارًا كانت بعثة الرسل إليهم اه. ويؤيد هذا التقدير قوله في آية سورة يونس [19] {وما كان الناس إلا أُمة واحدة فاختلفوا} لأن الظاهر اتحاد غرض الآيتين، ولأنه لما أخبر هنا عن الناس بأنهم كانوا أمة واحدة ونحن نرى اختلافهم علمنا أنهم لم يدوموا على تلك الحالة.
والمقصود من الآية على هذا الوجه التنبيه على أن التوحيد والهدى والصلاح هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها حين خلقهم كما دلت عليه آية: {ألست بربكم} [الأعراف: 172]، وأنها ما غشَّاها إلاّ تلقين الضلال وترويج الباطل وأن الله بعث النبيئين لإصلاح الفطرة إصلاحًا جزئيًا فكان هديهم مختلف الأساليب على حسب اختلاف المصالح والأهلية وشدة الشكائم، فكان من الأنبياء الميسر ومنهم المغلظ وأنه بعث محمدًا لإكمال ذلك الإصلاح، وإعادة الناس إلى الوحدة على الخير والهدى وذلك معنى قوله: {فهدى الله الذين آمنوا} الخ. اهـ.

.قال الفخر:

أما قوله تعالى: {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} فاعلم أنا ذكرنا أنه لابد هاهنا من الإضمار، والتقدير كان الناس أمة واحدة- فاختلفوا- فبعث الله النبيين واعلم أنه الله تعالى وصف النبيين بصفات ثلاث:
الصفة الأولى: كونهم مبشرين.
الصفة الثانية: كونهم منذرين ونظيره قوله تعالى: {رُّسُلًا مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} [النساء: 165] وإنما قدم البشارة على الإنذار، لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض، ولا شك أن المقصود بالذات هو الأول دون الثاني فلا جرم وجب تقديمه في الذكر.
الصفة الثالثة: قوله: {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق} فإن قيل: إنزال الكتاب يكون قبل وصول الأمر والنهي إلى المكلفين، ووصول الأمر والنهي إليهم يكون قبل التبشير والإنذار فلم قدم ذكر التبشير والإنذار على إنزال الكتب؟ أجاب القاضي عنه فقال: لأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة بالله وترك الظلم وغيرهما وعندي فيه وجه آخر وهو أن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق وفي الفرق بين المعجز إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقًا للعقاب، والخوف إنما يقوى ويكمل عند التبشير والإنذار فلا جرم وجب تقديم البشارة والنذارة على إنزال الكتاب في الذكر ثم قال القاضي: ظاهر هذه الآية يدل على أنه لا نبي إلا معه كتاب منزل فيه بيان الحق طال ذلك الكتاب أم قصر ودون ذلك الكتاب أو لم يدون وكان ذلك الكتاب معجزًا أو لم يكن كذلك، لأن كون الكتاب منزلًا معهم لا يقتضي شيئًا من ذلك. اهـ.

.قال ابن عاشور:

والمراد بالنبيين هنا الرسل بقرينة قوله: {وأنزل معهم الكتاب بالحق} والإرسال بالشرائع متوغل في القدم وقبله ظهور الشرط وهو أصل ظهور الفواحش لأن الاعتقاد الفاسد أصل ذميم الفعال، وقد عبد قوم نوح الأصنام، عبدوا ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وهم يومئذٍ لم يزالوا في مواطن آدم وبنيه في جبال نوذ من بلاد الهند كما قيل، وفي البخاري عن ابن عباس أن ودًّا وسواعًا ويغوث ويعوق ونسرًا كانوا من صالحي قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت اه، وقيل كانوا من صالحي قوم آدم، وقيل إن سواعًا هو ابن شيث وأن يغوث ابن سواع ويعوق ابن سغوث ونسر بن يعوق، وقيل إنهم من صالحي عصر آدم ماتوا فنحت قابيل بن آدم لهم صورًا ثم عبدوهم بعد ثلاثة أجيال، وهذا كله زمن متوغل في القدم قبل التاريخ فلا يؤخذ إلاّ بمزيد الاحتراز، وأقدم شريعة أثبتها التاريخ شريعة برهمان في الهند فإنها تبتدئ من قبل القرن الثلاثين قبل الهجرة. وفي هذا العهد كانت في العراق شريعة عظيمة ببابل وضعها ملك بابل المدعو حَمُورَابي ويظن المؤرخون أنه كان معاصرًا لإبراهيم عليه السلام وأنه المذكور في سفر التكوين باسم ملْكي صادق الذي لقي إبراهيم في شاليم وبارك إبراهيم ودعا له.
والبعث: الإرسال والإنهاض للمشي ومنه بعث البعير إذا أنهضه بعد أن برك والبعث هنا مجاز مستعمل في أمر الله النبي بتبليغ الشريعة للأمة.
و{النبيئين} جمع نبيء وهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من النبأ وهو الخبر المهم، لأن الله أخبره بالوحي وعلم ما فيه صلاح نفسه وصلاح من ينتسب إليه، فإن أمره بتبليغ شريعة الأمة فهو رسول فكل رسول نبيء، والقرآن يذكر في الغالب النبي مرادًا به الرسول، وقد ورد أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا لا يعلم تفصيلهم وأزمانهم إلاّ الله تعالى قال تعالى: {وقرونًا بين ذلك كثيرًا} [الفرقان: 38] وقال: {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} [الإسراء: 17]. وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر.
والمراد بالنبيين هنا خصوص الرسل منهم بقرينة قوله: {بعث} وبقرينة الحال في قوله: {مبشرين ومنذرين}، لأن البشارة والإنذار من خصائص الرسالة والدعوة وبقرينة ما يأتي من قوله: {وأنزل معهم الكتاب بالحق} الآية. فالتعريف في {النبيين} للاستغراق وهو الاستغراق الملقب بالعرفي في اصطلاح أهل المعاني.
والبشارة: الإعلام بخير حصل أو سيحصل، والنذارة بكسر النون الإعلام بشر وضر حصل أو سيحصل، وذلك هو الوعد والوعيد الذي تشتمل عليه الشرائع.
فالرسل هم الذين جاءوا بالوعد والوعيد، وأما الأنبياء غير الرسل فإن وظيفتهم هي ظهور صلاحهم بين قومهم حتى يكونوا قدوة لهم، وإرشاد أهلهم وذويهم ومريديهم للاستقامة من دون دعوة حتى يكون بين قومهم رجال صالحون، وإرشاد من يسترشدهم من قومهم، وتعليم من يرونه أهلًا لعلم الخير من الأمة.
ثم هم قد يجيئون مؤيدين لشريعة مضت كمجيء إسحاق ويعقوب والأسباط لتأييد شريعة إبراهيم عليه السلام، ومجيء أنبياء بني إسرائيل بعد موسى لتأييد التوراة، وقد لا يكون لهم تعلق بشرع من قبلهم كمجيء خالد بن سنان العَبْسي نبيئًا في عَبْس من العرب.
وقوله: {وأنزل معهم الكتاب}، الإنزال: حقيقته تدلية الجسم من علو إلى أسفل، وهو هنا مجاز في وصول الشيء من الأعلى مرتبة إلى من هو دونه، وذلك أن الوحي جاء من قبل الله تعالى ودال على مراده من الخلق فهو وارد للرسل في جانب له علو منزلة.
وأضاف مع إلى ضمير النبيئين إضافة مجملة واختير لفظ مع دون عليهم ليصلح لمن أنزل عليه كتاب منهم مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، ولمن جاء مؤيدًا لمن قبله مثل أنبياء بني إسرائيل بين موسى وعيسى.
والكتاب هو المكتوب، وأطلق في اصطلاح الشرع على الشريعة لأن الله يأمر الناس بكتابتها لدوام حفظها والتمكن من مدارستها، وإطلاق الكتاب عليها قد يكون حقيقة إن كانت الشريعة في وقت الإطلاق قد كتبت أو كتب بعضها كقوله تعالى: {الم ذلك الكتاب} [البقرة: 1 2] على أحد الوجهين المتقدمين هنالك، وقد يكون مجازًا على الوجه الآخر، وما هنا يحمل على الحقيقة لأن الشرائع قد نزلت وكتبت وكتب بعض الشريعة المحمدية.
والمعية معية اعتبارية مجازية أريد بها مقارنة الزمان، لأن حقيقة المعية هي المقارنة في المكان وهي المصاحبة، ولعل اختيار المعية هنا لما تؤذن به من التأييد والنصر قال تعالى: {إنني معكما أسمع وأرى} [طه: 20] وفي الحديث: «ومعك روح القدس».
والتعريف في الكتاب للاستغراق، أي وأنزل مع النبيئين الكتب التي نزلت كلها وهو من مقابلة الجمع بالجمع على معنى التوزيع، فالمعنى أنزل مع كل نبي كتابه وقرينة التوزيع موكولة لعلم السامعين لاشتهار ذلك.
وإنما أفرد الكتاب ولم يقل الكتب، لأن المفرد والجمع في مقام الاستغراق سواء، وقد تقدم مع ما في الإفراد من الإيجاز ودفع احتمال العهد إذ لا يجوز أن ينزل كتاب واحد مع جمع النبيئين؛ فتعين أن يكون المراد الاستغراق لا العهد، وجوز صاحب (الكشاف) كون اللام للعهد والمعنى أنزل مع كل واحد كتابه. اهـ.

.قال الخازن:

{وأنزل معهم الكتاب} أي الكتب أو يكون التقدير وأنزل مع كل واحد الكتاب {بالحق} أي بالعدل والصدق وجملة الكتب المنزلة من السماء مائة وأربعة كتب أنزل على آدم عشر صحائف، وعلى شيث ثلاثون، وعلى إدريس خمسون، وعلى موسى عشر صحائف والتوراة، وعلى داود الزبور، وعلى عيسى الإنجيل، وعلى محمد صلى الله عليه وسلم وعليهم القرآن. اهـ.

.قال أبو حيان:

{وأنزل معهم الكتاب بالحق} معهم حال من الكتاب: وليس تعمل فيه أنزل، إذ كان يلزم مشاركتهم له في الإنزال، وليسوا متصفين، وهي حال مقدرة أي: وأنزل الكتاب مصاحبًا لهم وقت الإنزال لم يكن مصاحبًا لهم، لكنه انتهى إليهم.
والكتاب: إما أن تكون أل فيه للجنس، وإما أن تكون للعهد على تأويل: معهم، بمعنى مع كل واحد منهم، أو على تأويل أن يراد به واحد معين من الكتب، وهو التوراة. قاله الطبري، أنزلت على موسى وحكم بها النبيون بعده، واعتمدوا عليها كالأسباط وغيرهم، ويضعف أن يكون مفردًا وضع موضع الجمع، وقد قيل به.
ويحتمل: بالحق، أن يكون متعلقًا: بأنزل، أو بمعنى ما في الكتاب من معنى الفعل، لأنه يراد به المكتوب، أو بمحذوف، فيكون في موضع الحال من الكتاب، أي مصحوبًا بالحق، وتكون حالًا مؤكدة لأن كتب الله المنزلة يصحبها الحق ولا يفارقها، وهذه الجملة معطوفة على قوله: {فبعث الله}.
ولا يقال: إن البشارة والنذارة إنما يكونان بالأمر والنهي، وهما إنما يستفادان من إنزال الكتب فَلِمَ قدما على الإنزال مع أنهما ناشئان عنه؟ لأنه ذلك لا يلزم، لأن البشارة والنذارة قد يكونان ناشئين عن غير الكتب من وحي الله لنبيه دون أن يكون ذلك كتابًا يتلى ويكتب، ولو سلم ذلك لكان تقديمهما هو الأولى لأنهما حالان من النبيين. فناسب اتصالهما بهم، وإن كانا ناشئين عن إنزال الكتب.
وقال القاضي: الوعد والوعيد من الأنبياء عليهم السلام قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من معرفة الله تعالى، وترك الظلم وغيرهما، انتهى كلامه.
وما ذكر لا يظهر، لأن الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ليسا مما يقضي بهما العقل وحده على جهة الوجوب، وإنما ذلك على سبيل الجواز، ثم أتى الشرع بهما، فصار ذلك الجائز في العقل واجبًا بالشرع، وما كان بجهة الإمكان العقلي لا يتصف به النبي على سبيل الوجوب إلاَّ بعد الوحي قطعًا، فإذن يتقدّم الوحي بالوعد والوعيد على ظهور البشارة والنذارة ممن أوحى إليه قطفًا.
قال القاضي: وظاهر الآية يدل على أنه لا نبي إلاَّ ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق، طال ذلك الكتاب أو قصر، دوّن أو لم يدوّن، كان معجزًا أو لم يكن، لأن كون الكتاب منزلًا معهم لا يقضي شيئًا من ذلك. انتهى كلامه.
ويحتمل أن يكون التجّوز في: أنزل، فيكون بمعنى: جعل، كقوله: {وأنزلنا الحديد} ولما كان الإنزال الكثير منهم نسب إلى الجميع، ويحتمل أن يكون التجوّز في الكتاب، فيكون بمعنى الموحى به، ولما كان كثيرًا مما أوحى به بكتب، أطلق على الجميع الكتاب تسمية للمجموع باسم كثير من أجزائه. اهـ.